ما سر الأشخاص الذين لا يفقدون اتزانهم؟
سلامك الداخلي
هل سبق لك أن راقبت شخصًا يمر بأزمة طاحنة، سواء كانت خسارة في عمله أو تحديًا شخصيًا عاصفًا، وبدا لك وكأنه صخرة لا تهتز؟ بينما يغرق الآخرون في دوامة القلق والارتباك، يقف هو بهدوء، يحلل الموقف، ويتخذ خطواته التالية بثقة عجيبة.
قد يخطر ببالك أن هؤلاء الأشخاص وُلِدوا بصفات خارقة، أو أنهم ببساطة محصّنون ضد آلام الحياة وتقلباتها.
لكن الحقيقة أعمق وأكثر إلهامًا من ذلك بكثير.ما سر الأشخاص الذين لا يفقدون اتزانهم؟
إن السر لا يكمن في غياب العواصف، بل في امتلاك مرساة قوية تثبّت سفينة النفس حين يشتد الموج. هؤلاء الأفراد لم يجدوا طريقًا مختصرًا لتجنب الضغوط، بل تعلموا فن إدارة الضغوط بأساليب منهجية وواعية.
لقد بنوا داخلهم نظامًا متكاملًا من العادات الذهنية والعملية التي تشكل درعًا واقيًا، لا لمنع وصول الضربات، بل لامتصاصها وتحويل طاقتها إلى قوة دفع نحو الأمام.
هذا الاتزان النفسي ليس هبة فطرية، بل هو مهارة تُكتسب، وعضلة تُمرَّن بالوعي والممارسة المستمرة. في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذا السر، ونكشف عن الاستراتيجيات التي يمكنك تبنيها اليوم لتبدأ رحلتك نحو استعادة زمام أمورك، وبناء حصنك الداخلي المنيع.
أ/ ليسوا محصنين ضد العواصف، بل يمتلكون مرساة أعمق
الفكرة الأولى التي يجب أن نصححها هي أن الأشخاص المتزنين لا يعيشون في فقاعة وردية.
هم يتعرضون للفشل، ويواجهون الخذلان، ويشعرون بالحزن تمامًا مثل أي شخص آخر.
لكن الفارق الجوهري يكمن في "إطار التفسير" الذي يضعون فيه هذه الأحداث.
إنهم يمتلكون مرساة نفسية عميقة تمنع سفينتهم من الانجراف مع كل موجة عاتية.
هذه المرساة هي ببساطة قدرتهم على الفصل بين "الحدث" و"ردة فعلهم تجاه الحدث".
لنتخيل موظفَين تلقيا نفس الملاحظة النقدية من مديرهما على مشروع عملا عليه بجد.
الأول ينهار، يرى في النقد هجومًا شخصيًا، ويقضي بقية يومه غارقًا في التفكير السلبي ولوم الذات، وربما يبدأ في البحث عن وظيفة أخرى بيأس.
أما الثاني، فيشعر بوخزة الإحباط للحظات، لكنه سرعان ما يفصل مشاعره عن الواقع. يسأل نفسه: "ما الجزء الصحيح في هذا النقد؟ كيف يمكنني استخدامه لتطوير المشروع القادم؟".
إنه لا ينكر مشاعره، ولكنه لا يسمح لها بقيادة الدفة.
هذا هو جوهر الاتزان النفسي؛ فهو ليس قمعًا للمشاعر، بل هو إدارتها بوعي.
يعتمد هؤلاء الأشخاص على مبدأ بسيط وعميق: التركيز على دائرة التأثير، لا دائرة القلق.
هم يدركون أنهم لا يستطيعون التحكم في الطقس، لكنهم يستطيعون ضبط أشرعة سفينتهم.
بدلاً من إهدار طاقتهم في الشكوى من الرياح، يوجهون كل جهدهم لتعلم كيفية الإبحار في أصعب الظروف.
هذه العقلية لا تولد معهم، بل هي نتيجة تدريب ذهني متواصل على التمييز بين ما يمكن تغييره وما يجب تقبله.
إنهم يمارسون ما يمكن تسميته "الواقعية المتفائلة".
هم لا ينكرون وجود المشكلة، بل يعترفون بها بحجمها الحقيقي دون تضخيم.
ثم، وبشكل منهجي، يبدأون في البحث عن خياراتهم المتاحة ضمن هذا الواقع.
هذه القدرة على الحفاظ على الهدوء النفسي في قلب العاصفة تمنحهم ميزة استراتيجية هائلة؛
فالذهن الهادئ يرى الحلول التي يعجز عن رؤيتها الذهن المضطرب.
إنهم ببساطة يرفضون منح الأحداث الخارجية سلطة تعريف قيمتهم أو تحديد مسارهم.
ب/ طقوس يومية بسيطة: كيف تبني حصنًا منيعًا ضد فوضى الحياة؟
قد تبدو فكرة بناء القوة الذهنية مشروعًا ضخمًا ومعقدًا، لكن الحقيقة أن أساسها يُبنى من خلال طقوس يومية صغيرة ومتراكمة، تمامًا كقطرات الماء التي تحفر الصخر.
الأشخاص الذين يتمتعون باتزان لافت للنظر لا يقومون بأفعال بطولية كل يوم، بل يلتزمون بعادات بسيطة تشحن بطاريتهم النفسية وتجعلهم أكثر صلابة في وجه التحديات الكبرى.
هذه الطقوس ليست رفاهية، بل هي ضرورة استراتيجية.
أحد أهم هذه الطقوس هو امتلاك بداية هادئة لليوم.
اقرأ ايضا: كيف تتجاوز الماضي دون غضب أو حنين؟
فبدلًا من الاستيقاظ على عجالة وتصفح سيل الأخبار ورسائل البريد الإلكتروني مباشرة، يخصصون الدقائق الأولى من صباحهم لأنفسهم.
قد يكون ذلك من خلال تمارين تنفّس عميق واسترخاء عضلي، أو أداء صلاة بخشوع، أو كتابة صفحة واحدة في دفتر يومياتهم للتعبير عن امتنانهم أو لتفريغ ما يزعجهم.
هذه الدقائق القليلة تعمل كبوصلة توجه بقية اليوم، وتضعهم في حالة من الهدوء الاستباقي بدلاً من رد الفعل الفوضوي.
طقس آخر لا يقل أهمية هو "الاستراحات الذهنية المدروسة" خلال اليوم.
في عالم يُمجد الانشغال الدائم، يدرك هؤلاء الأشخاص أن الدماغ ليس آلة تعمل بلا توقف.
كل ساعة أو تسعين دقيقة، يأخذون استراحة قصيرة جدًا، قد لا تتجاوز خمس دقائق، يبتعدون فيها عن الشاشات، يتنفسون بعمق، أو يمشون في المكان.
هذه الفواصل القصيرة ليست مضيعة للوقت، بل هي استثمار مباشر في جودة تركيزهم وقدرتهم على إدارة الضغوط لاحقًا.
إنها تمنع تراكم التوتر إلى درجة الانفجار.
إضافة إلى ذلك، فإنهم يولون اهتمامًا كبيرًا لنوعية "المدخلات" التي تغذي عقولهم.
فهم يختارون بوعي ما يقرؤون، وما يشاهدون، ومع من يتحدثون.
يدركون أن استهلاك محتوى سلبي أو الدخول في نقاشات جدلية لا طائل منها يستنزف طاقتهم النفسية الثمينة.
لذا، يحرصون على تخصيص وقت للاطلاع على محتوى ملهم ومفيد، والتواصل مع أشخاص إيجابيين يدعمونهم.
إنهم يتعاملون مع طاقتهم الذهنية كأثمن مورد يمتلكونه، ويحمونها بصرامة.
هذه العادات البسيطة، عند ممارستها بانتظام، تتحول إلى نظام مناعة نفسي قوي، يجعلهم أقل عرضة للتأثر بالتقلبات الخارجية ويمنحهم السلام الداخلي الذي يطمح إليه الجميع.
ج/ دائرة التأثير: فن فلترة الضجيج الخارجي لحماية هدوئك
أحد الأسرار الكبرى للأشخاص المتزنين هو قدرتهم الفائقة على رسم حدود واضحة بين عالمهم الداخلي والضجيج الخارجي.
إنهم يدركون أن محاولة السيطرة على كل شيء هي أسرع طريق لفقدان السيطرة على أنفسهم.
لذا، فإنهم يتقنون "فن الفلترة"، حيث يقومون بوعي بتصفية ما يسمحون له بالدخول إلى مساحتهم النفسية، وما يتركونه خارج أسوارهم.
هذه العملية ليست انعزالًا، بل هي حماية استراتيجية للطاقة.
تبدأ هذه الفلترة من العالم الرقمي.
في عصر الإشعارات المتواصلة وسيل المعلومات الذي لا ينقطع، يعامل هؤلاء هواتفهم كأداة، لا كسيد.
يقومون بتعطيل الإشعارات غير الضرورية، ويخصصون أوقاتًا محددة لتصفح وسائل التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني، بدلاً من تركها تقاطع تركيزهم وتستنزف هدوءهم على مدار اليوم.
هذا القرار البسيط يعيد إليهم السلطة على انتباههم، وهو أثمن أصول القوة الذهنية.
إنهم يختارون متى يتفاعلون مع العالم الرقمي، ولا يسمحون له بفرض إيقاعه عليهم.
تمتد هذه الفلترة إلى علاقاتهم الاجتماعية.
فهم يدركون أن الطاقة معدية، سواء كانت إيجابية أم سلبية.
لذا، يستثمرون وقتهم الأكبر مع الأشخاص الذين يضيفون إلى حياتهم قيمة، ويشجعونهم على النمو، ويحترمون حدودهم.
في المقابل، يتعلمون كيفية وضع مسافة صحية مع "مستنزفي الطاقة"؛
أولئك الذين لا حديث لهم إلا الشكوى، أو النقد الهدام، أو نشر القلق.
هذا لا يعني قطع العلاقات بفظاظة، بل يعني إدارة التفاعل معهم بذكاء، كتقليل مدة اللقاءات أو تجنب الخوض في مواضيع تستنزف الهدوء النفسي.
د/ بوصلة الروح: كيف يغذي الإيمان والغاية حس الاتزان النفسي؟
بعيدًا عن الاستراتيجيات العملية والعادات اليومية، هناك بعد أعمق يمثل حجر الزاوية في صمود الكثير من الأشخاص المتزنين: ارتباطهم بشيء أكبر من ذواتهم.
سواء كان ذلك من خلال الإيمان الروحي العميق أو من خلال التمسك بغاية ورسالة واضحة في الحياة، فإن هذه "البوصلة الداخلية" تمنحهم منظورًا مختلفًا تمامًا للأحداث، وتوفر لهم مصدرًا لا ينضب من القوة والصبر.
بالنسبة للشخص المؤمن، لا تكون الأحداث مجرد سلسلة من المصادفات العشوائية، بل هي جزء من حكمة إلهية أكبر.
هذا الإيمان يمنحهم شعورًا بالطمأنينة حتى في أحلك الظروف، لأنهم يوقنون أن كل ما يحدث لهم هو لخير، حتى لو لم تظهر حكمته في الحال.
إن اللجوء إلى الصلاة، والذكر، وقراءة النصوص المقدسة ليس مجرد طقوس، بل هو عملية إعادة شحن روحي تعيد ضبط الاتزان النفسي وتضع الأمور في نصابها الصحيح.
عندما يشعر الإنسان بأنه ليس وحيدًا في معركته، وأن هناك قوة أكبر تحيط به بعنايتها، فإن ثقله يخف وقلقه يتبدد.
أما بالنسبة لأولئك الذين قد لا يكون لديهم توجه ديني واضح، فإن "الغاية" تلعب دورًا مشابهًا.
عندما يكون لحياتك معنى يتجاوز تحقيق الرغبات الشخصية قصيرة المدى – كخدمة قضية تؤمن بها، أو رعاية أسرتك، أو إتقان حرفة تحبها – فإن التحديات اليومية تفقد الكثير من قدرتها على زعزعتك.
تصبح العقبات مجرد محطات في رحلة أكبر وأكثر أهمية.
قد يتساءل البعض: "ولكن كيف أجد غايتي؟".
الحقيقة أن الغاية لا تُكتشف فجأة، بل تُبنى تدريجيًا من خلال التجربة والعمل.
ابدأ بخدمة من حولك في دائرتك الصغيرة، أو بتطوير مهارة تشعر بالشغف نحوها.
الغاية غالبًا ما تكون في العطاء، لا في الأخذ.
هـ/ عندما تتعثر الخطى: فن النهوض بعد السقوط بصلابة أكبر
أخيرًا، فإن السمة التي تميز حقًا الأشخاص ذوي الاتزان النفسي ليست أنهم لا يسقطون أبدًا، بل هي الطريقة التي ينهضون بها بعد كل عثرة.
إنهم يتقنون "فن المرونة النفسية"، وهي القدرة على التعافي من الشدائد والعودة أقوى وأكثر حكمة من ذي قبل.
هذه المرونة ليست صفة فطرية، بل هي عضلة تُبنى من خلال تغيير نظرتنا إلى الفشل والتعثر.
هم لا يرون الفشل كحكم نهائي على قيمتهم أو قدراتهم، بل يعتبرونه جزءًا لا يتجزأ من عملية التعلم والنمو.
بدلًا من أن يقول أحدهم "أنا فاشل"، يقول "لقد فشلت هذه المحاولة".
هذا التغيير البسيط في اللغة يعكس تحولًا هائلًا في العقلية؛ فهو يفصل بين هوية الشخص وبين نتيجة أفعاله.
هذا الفصل يسمح لهم بتحليل أسباب الإخفاق بموضوعية، واستخلاص الدروس المستفادة، وتطبيقها في المحاولة التالية دون أن تحملهم ثقيلة من جلد الذات.
علاوة على ذلك، يمارس هؤلاء الأشخاص "التعاطف مع الذات" في أوقات الشدة.
يدركون أن ارتكاب الأخطاء هو جزء من التجربة الإنسانية المشتركة.
بدلاً من لوم أنفسهم بقسوة، يقدمون لأنفسهم نفس الدعم والتفهم الذي يقدمونه لصديق يمر بمحنة.
هذا اللطف الداخلي يسرّع من عملية الشفاء النفسي ويمنع الغرق في دوامة من المشاعر السلبية.
إنهم يدركون أن القسوة على الذات لا تحفز على التحسن، بل تؤدي إلى الشلل والخوف من المحاولة مرة أخرى.
يمكن تشبيه هذه العملية بفن "الكينتسوجي" الياباني، وهو فن إصلاح الفخار المكسور بالذهب.
لا يحاول هذا الفن إخفاء الشقوق، بل يحتفي بها ويبرزها، جاعلًا من القطعة المكسورة أكثر جمالًا وقيمة من الأصل.
بنفس الطريقة، يرى الأشخاص المرنون أن ندوب تجاربهم ليست عيوبًا يجب إخفاؤها، بل هي علامات على صمودهم وقوتهم.
كل عثرة نهضوا منها أضافت طبقة من الحكمة إلى شخصياتهم، وكل تحدٍ تجاوزوه زاد من قوتهم الذهنية.
إن سرهم ليس في تجنب الكسر، بل في معرفة كيفية جمع القطع المبعثرة وإعادة بنائها بصلابة وجمال أكبر.
و/ وفي الختام:
إن طريق اكتساب السلام الداخلي ليس طريقًا مستقيمًا، بل هو مليء بالمنعطفات والعثرات.ولكن مع كل مرة تختار فيها النهوض وتطبيق ما تعلمته، فإنك لا تعود إلى نقطة الصفر، بل تواصل المسير من مكان أعلى وأكثر قوة.
هذا المقال يقدم وجهات نظر واستراتيجيات ملهمة للنمو الشخصي، ولا يغني عن طلب المشورة المتخصصة من طبيب أو معالج نفسي عند مواجهة تحديات نفسية كبيرة تتطلب دعمًا متخصصًا.
إن السعي نحو الاتزان النفسي هو أثمن رحلة يمكن أن تخوضها، والخطوة الأولى تبدأ دائمًا من الداخل، بقرار واعٍ منك بأن تكون قبطان سفينتك، لا مجرد راكب تتقاذفه الأمواج.
اقرأ ايضا: لماذا يرتاح من يتوقف عن تبرير نفسه؟
هل لديك استفسار أو رأي؟يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة .