لماذا يرتاح من يتوقف عن تبرير نفسه؟
سلامك الداخلي
هل سبق لك أن خرجت من نقاش وأنت تشعر بإرهاق تام، ليس بسبب صعوبة الحوار، بل لأنك قضيت كل دقيقة فيه تحاول تفسير دوافعك، والدفاع عن قراراتك، وتقديم مبررات منطقية لكل خطوة اتخذتها؟
تدور في رأسك أصداء كلماتك، وتعيد صياغة حججك، وتتساءل لو أنك كنت أكثر إقناعًا.لماذا يرتاح من يتوقف عن تبرير نفسه؟
هذا المشهد المألوف هو سجن غير مرئي نبنيه بأيدينا، جدرانه هي الحاجة الدائمة للحصول على موافقة الآخرين، وقضبانه هي الخوف من أن يُساء فهمنا.
إن السعي المستمر للتبرير هو استنزاف صامت لطاقتك النفسية والعقلية.
إنه يضع قوة تقييمك لذاتك في أيدي الآخرين، ويحوّل قراراتك الشخصية إلى قضايا مطروحة للنقاش العام.
لكن، ماذا لو كان هناك طريق آخر؟
ماذا لو كانت الراحة النفسية الحقيقية لا تكمن في إقناع العالم بصوابك، بل في الوصول إلى قناعة داخلية تُغنيك عن الحاجة إلى تبرير وجودك أو اختياراتك؟
هذا المقال ليس دعوة للغطرسة أو التجاهل، بل هو دليل عملي لاستعادة سلطتك على حياتك، عبر فهم القوة الهائلة الكامنة في التوقف عن التبرير.
أ/ التكلفة الخفية للتبرير المستمر: سارق الطاقة الأول
في كل مرة تفتح فيها فمك لتقدم تبريرًا لم تكن مضطرًا لتقديمه، فإنك تدفع ضريبة باهظة من طاقتك الذهنية. قد لا تلاحظها في حينها، لكنها تتراكم مع مرور الوقت لتتحول إلى شعور دائم بالإنهاك والقلق.
التبرير المستمر هو بمثابة تشغيل تطبيق يستهلك موارد جهازك في الخلفية؛
قد لا تراه، لكن أداءك العام يتباطأ حتمًا.
دعنا نتخيل "خالد"، مدير مشروع مجتهد يعمل في شركة تقدّس الاجتماعات الطويلة.
كل قرار يتخذه، من اختيار لون أزرار واجهة التطبيق إلى تحديد موعد نهائي لمهمة فرعية، يواجهه سيل من الأسئلة التي تتطلب تبريرًا.
يقضي خالد ساعات في صياغة رسائل بريد إلكتروني مفصلة، وإعداد عروض تقديمية للدفاع عن منهجيته، وتوقع الانتقادات المحتملة.
النتيجة؟
يصل إلى منزله في نهاية اليوم وقد استُنزفت طاقته بالكامل، لا في العمل الإبداعي وحل المشكلات، بل في حماية قراراته من حكم الآخرين.
هذا الجهد الذهني كان يمكن توجيهه نحو الابتكار أو تطوير فريقه.
ب/ استعادة سيادتك الذهنية: قوة "القرار المتخذ"
عندما تتوقف عن تبرير نفسك، فأنت لا توفر طاقتك فحسب، بل تستعيد سيادتك على عقلك وحياتك.
هذه السيادة هي التي تسمح لك باتخاذ قرارات أكثر جرأة ووضوحًا، لأنك لم تعد أسيرًا لردود أفعال الآخرين المتوقعة.
إنها لحظة تحوّل محورية؛
من البحث عن الإذن إلى منح الإذن لنفسك.
اقرأ ايضا: كيف تتنفس بوعي عندما يثقل كل شيء؟
فكر في الطاقة التي تهدرها في التفكير المسبق: "ماذا سيقولون لو فعلت كذا؟
كيف سأشرح لهم قراري؟".
هذا التفكير الاستباقي يستهلك مساحة ذهنية ثمينة كان يمكن استخدامها في التخطيط الفعلي، أو الإبداع، أو حتى الاسترخاء.
عندما تقرر التوقف عن التبرير، فإنك تحرر هذه المساحة.
يصبح عقلك أكثر هدوءًا وتركيزًا، وتصبح عملية اتخاذ القرار أبسط وأكثر انسجامًا مع قيمك الحقيقية، لا مع ما تعتقد أن الآخرين يريدون سماعه.
إليك تمرين عملي بسيط يمكنك البدء به اليوم.
اختر شيئًا صغيرًا في حياتك، قرارًا لا يؤثر بشكل مباشر على الآخرين، وقرر ألا تبرره لأي شخص.
قد يكون هذا القرار هو قضاء عطلة نهاية الأسبوع في قراءة كتاب بدلاً من الخروج، أو تغيير طريقة ترتيب أثاث غرفتك، أو البدء في تعلم مهارة جديدة عبر الإنترنت.
عندما يسألك أحدهم "لماذا؟"، قاوم رغبتك الفورية في تقديم قائمة طويلة من الأسباب.
جرّب إجابة بسيطة وهادئة مثل: "لأن هذا ما شعرت برغبة في فعله" أو "وجدت أن هذا يناسبني أكثر".
ج/ بناء الثقة من الداخل: كيف يجعلك التبرير أقل جدارة بالثقة؟
المفارقة العجيبة هي أن كثرة التبرير لا تجعلك تبدو أكثر منطقية أو كفاءة، بل على العكس تمامًا، قد تبعث برسالة خفية بانعدام الأمان والشك في قراراتك الخاصة.
عندما تسارع دائمًا إلى شرح "لماذا"، فإنك تفتح الباب للآخرين للتشكيك في "ماذا".
إنك تدعوهم دون وعي إلى طاولة المفاوضات حول صحة اختيارك، مما يضعف موقفك قبل أن تبدأ بالدفاع عنه.
لنبنِ مشهدًا مقارنًا: تخيل قائدَي فريق في اجتماع. الأول، "علي"، يقدم اقتراحه قائلاً: "أقترح أن نعتمد الإستراتيجية (أ)". عندما يُسأل عن السبب، يبدأ في سرد قائمة طويلة من المبررات، يتلعثم قليلاً، ويحاول استرضاء كل معترض محتمل.
أما الثاني، "حسن"، فيقول بثبات: "بعد دراسة الخيارات، قررنا المضي قدمًا بالإستراتيجية (أ).
إنها تتوافق بشكل أفضل مع أهدافنا طويلة الأمد".
إذا سُئل عن تفاصيل، فإنه يقدم شرحًا موجزًا وواثقًا، لا تبريرًا اعتذاريًا. من منهما يبدو أكثر جدارة بالثقة؟
حسن، بالطبع. لأن ثقته تنبع من الداخل.
هو لا يسعى للحصول على موافقة، بل يقدم قرارًا مدروسًا.
الثقة بالنفس الحقيقية لا تحتاج إلى ضجيج لتثبت وجودها؛ إنها هادئة وحاسمة.
وعندما تتوقف عن تقديم التبريرات غير الضرورية، فإنك تبدأ في بناء هذا النوع من الثقة.
تبدأ في الوثوق بحدسك، بتحليلك، وبقدرتك على اتخاذ القرارات الصائبة لك أو لفريقك.
هنا قد يتساءل البعض: "لكن ماذا لو كنت مخطئًا بالفعل؟
أليس من الواجب أن أبرر لأوضح وجهة نظري؟"
وهذا سؤال مهم.
الفرق الجوهري يكمن بين "الشرح" و"التبرير".
الشرح هو تقديم معلومات ضرورية لتوضيح سياق أو قرار، وهو غالبًا ما يكون مطلوبًا في البيئات المهنية والتعاونية.
أما التبرير، فهو دفاع عاطفي مدفوع بالحاجة إلى القبول.
يمكنك أن تشرح قرارك بتقديم البيانات والحقائق دون أن تشعر بالحاجة إلى اعتذار أو استجداء للموافقة.
لتحقيق هذا التوازن، تمرّن على استخدام لغة واثقة ومباشرة.
بدلاً من أن تقول: "آسف، أعرف أن هذا قد يبدو غريبًا، لكنني قررت أن أفعل كذا لأنني كنت أشعر بـ..."، قل: "لقد اتخذت قرارًا بـ (كذا). السبب الرئيسي هو...".
لاحظ كيف تزيل الصيغة الثانية الدراما العاطفية وتركز على جوهر الموضوع.
هذا التحول البسيط في اللغة يعزز قبول الذات ويعكس قوة داخلية تفرض احترامها بشكل طبيعي.
د/ فن التواصل الواعي: كيف تقول "لا" دون الشعور بالذنب؟
إن رحلة التوقف عن التبرير ليست دعوة للانعزال أو التصرف بوقاحة، بل هي ممارسة لفن التواصل الواعي والناضج.
جزء كبير من هذه الممارسة يتمثل في تعلم كيفية وضع الحدود، وقول "لا" عند الضرورة، والتعبير عن الرأي دون الدخول في معارك دفاعية لا طائل منها.
الأمر لا يتعلق بما تقوله فقط، بل بكيفية قوله والطاقة التي تقف خلف كلماتك.
كثير منا يجد صعوبة في رفض الطلبات، سواء من الأصدقاء أو العائلة أو زملاء العمل، لأننا نخشى أن نجرح مشاعرهم أو نبدو بمظهر الأناني.
وللتخفيف من هذا الشعور بالذنب، نلجأ إلى اختلاق الأعذار وتقديم تبريرات طويلة ومعقدة.
نقول: "أتمنى لو أستطيع، لكنني مشغول جدًا هذا الأسبوع، ولدي موعد طارئ، و..."، بدلاً من قول الحقيقة البسيطة: "شكرًا لدعوتك، لكنني لن أتمكن من الحضور".
المشكلة في التبريرات المطولة أنها تفتح بابًا للتفاوض.
عندما تقدم قائمة من الأسباب، فإنك تمنح الطرف الآخر فرصة لتفكيكها وتقديم حلول لها: "أوه، إذا كان الموعد يوم الثلاثاء، فماذا عن الأربعاء؟".
هذا يضعك في موقف أصعب، وقد تضطر إلى اختلاق المزيد من الأعذار.
الحل يكمن في أن تكون واضحًا، وموجزًا، ولطيفًا، وحازمًا في آن واحد.
إليك صيغة بسيطة وفعالة لوضع الحدود دون تبرير:
عبّر عن التقدير (إن أمكن): "شكرًا لتفكيرك بي" أو "أقدّر لك هذا العرض".
اذكر قرارك بوضوح: "لكنني لن أتمكن من المشاركة" أو "هذا لا يناسبني في الوقت الحالي".
توقف. لا تضف "لأن...". الصمت الذي يلي قرارك هو المساحة التي تؤكد فيها على حدودك.
قد يبدو الأمر صعبًا، لكن مع الممارسة، ستكتشف أن معظم الناس يحترمون الوضوح.
إنهم يفضلون إجابة مباشرة على سلسلة من الأعذار الواهية.
وهذا لا ينطبق فقط على قول "لا"، بل يمتد إلى التعبير عن آرائك. يمكنك أن تختلف مع شخص ما في الرأي دون الحاجة إلى تبرير سبب شعورك أو تفكيرك.
يمكنك ببساطة أن تقول: "أرى الأمر من منظور مختلف" أو "لدي وجهة نظر أخرى حول هذا الموضوع"، دون الشعور بالالتزام بإقناعه أو تحويل الحوار إلى جدال.
إن إتقان هذا الفن يمنحك سلامًا داخليًا لا يقدر بثمن، لأنه يحررك من مسؤولية إدارة مشاعر الآخرين وردود أفعالهم.
أنت مسؤول فقط عن التعبير عن حقيقتك بلطف واحترام.
هـ/ احتضان المسؤولية: الحرية المطلقة في قبول نتائج اختياراتك
الوجه الآخر لعملة التوقف عن التبرير هو القبول الكامل للمسؤولية عن نتائج اختياراتك.
عندما تتوقف عن البحث عن موافقة خارجية، فإنك تصبح المالك الوحيد لقراراتك، سواء أدت إلى النجاح أم الفشل.
قد يبدو هذا مخيفًا في البداية، ولكنه في الحقيقة هو ذروة الحرية الشخصية.
طالما أنك تبرر، فأنت ضمنيًا تشارك الآخرين مسؤولية قراراتك. كأنك تقول: "لقد وافقتم على أسبابي، لذا فأنتم شركاء في النتيجة".
هذا يمنحك مخرجًا سهلاً عند الفشل ("لقد شرحت لكم الأمر ووافق الجميع!")، لكنه يسرق منك أيضًا الشعور بالانتصار الحقيقي عند النجاح.
النجاح الذي يتطلب موافقة الآخرين هو نجاح منقوص.
إن احتضان المسؤولية الكاملة يعني أنك تثق بنفسك بما يكفي للتعامل مع أي نتيجة.
إذا نجحت، فإن الفضل يعود إلى حكمتك وجهدك.
وإذا فشلت، فإنك تنظر إلى الأمر كدرس قيّم وفرصة للنمو، لا كإدانة لشخصك تتطلب دفاعًا وتبريرًا.
هذا التحول في العقلية هو أساس الراحة النفسية الدائمة.
لم تعد تعيش في خوف من ارتكاب الأخطاء، لأنك تعرف أن كل خطأ هو مجرد بيانات جديدة تساعدك على اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل.
تخيل رائد أعمال شاب أطلق مشروعًا تجاريًا.
بدلاً من قضاء وقته في تبرير نموذج عمله للمتشككين، ركز على تنفيذه بأفضل ما يستطيع.
فشل المشروع بعد ستة أشهر.
بدلاً من لوم السوق أو المستشارين أو الظروف، جلس مع نفسه وحلل الأسباب بموضوعية: "لم يكن المنتج مناسبًا للسوق، وكانت تكاليف التسويق أعلى من المتوقع".
لم يشعر بالخزي، بل بالامتنان للدرس الذي تعلمه. هذه التجربة، رغم فشلها الظاهري، بنت لديه مرونة وصلابة لا تقدر بثمن لمشروعه التالي.
هذا هو قبول الذات في أسمى صوره: أن تقبل نفسك وقراراتك ونتائجها، دون الحاجة إلى فلتر خارجي من الأحكام. عندما تصل إلى هذه المرحلة، فإنك لا تحتاج إلى تبرير اختياراتك للآخرين، لأنك لم تعد بحاجة إلى تبريرها حتى لنفسك.
أنت ببساطة تعيش، وتتعلم، وتنمو.
وهذا هو جوهر السلام الداخلي؛ أن تكون في حالة انسجام تام مع نفسك، في السراء والضراء، مدركًا أن كل خطوة، ناجحة كانت أم فاشلة، هي جزء من رحلتك الفريدة.
و/ وفي الختام:
لقد استكشفنا كيف أن عادة التبرير تستنزف طاقتك، وتقوّض ثقتك بنفسك، وتمنعك من عيش حياة أصيلة.
إن التخلي عن هذه العادة ليس فعل أنانية، بل هو أعلى درجات احترام الذات.
إنه قرار واعٍ باستعادة قوتك، والوثوق بحدسك، وتحمل مسؤولية حياتك بالكامل.
قد تكون هذه الرحلة غير مريحة في بدايتها، لأنها تتحدى أنماطًا سلوكية متجذرة بعمق.
لكن مع كل قرار تتخذه دون الحاجة إلى تبريره، ستبني عضلة الثقة بنفسك وتتذوق حلاوة الحرية والهدوء النفسي.
ابدأ اليوم بخطوة صغيرة.
اختر موقفًا واحدًا، وقرر أن يكون قرارك نهائيًا، دون الحاجة إلى شرح أو دفاع.
شاهد كيف سيتحرر عقلك، وكيف ستشعر بالخفة والراحة التي كنت تبحث عنها طويلاً.
اقرأ ايضا: ما الذي يمنحك راحة القلب في أصعب الأيام؟
هل لديك استفسار أو رأي؟
يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة .