فهم المشاعر بدلًا من مقاومتها: طريقك نحو التوازن النفسي
مرآة الذات:
هل شعرت يومًا بأنك في صراع داخلي مع ما يجول في خاطرك؟ هل حاولت تجاهل شعور بالحزن أو القلق، لتجده يعود أقوى من ذي قبل؟ إنها تجربة إنسانية شائعة، حيث نميل غالبًا إلى مقاومة المشاعر التي نعتبرها سلبية أو غير مرغوب فيها.
لكن ماذا لو كان الطريق إلى السلام الداخلي لا يكمن في محاربة هذه المشاعر، بل في فهمها واحتضانها؟ في هذه المقالة ضمن مدونة رحلة1، سنستكشف معًا كيف يمكن أن يصبح فهم المشاعر بوابتك لتحقيق التوازن النفسي المنشود.
نحن نعيش في عالم يقدس الإنتاجية والإيجابية المطلقة، مما يخلق لدينا انطباعًا بأن مشاعر مثل الحزن، أو الخوف، أو الغضب هي عقبات يجب التغلب عليها بسرعة. تعلمنا منذ الصغر أن "الرجال لا يبكون" أو أن "التفكير الزائد لن يحل المشكلة"، وهي رسائل تدفعنا إلى كبت ما نشعر به بدلًا من التعامل معه.فهم المشاعر بدلًا من مقاومتها: طريقك نحو التوازن النفسي
لكن الحقيقة التي يؤكدها علم النفس الحديث هي أن المشاعر، بكل أنواعها، جزء لا يتجزأ من تجربتنا الإنسانية.
إنها ليست عدوًا، بل رسائل من عقلنا الباطن تستحق أن نصغي إليها.
مقاومتها لا تجعلها تختفي، بل تدفعها إلى أعماق اللاوعي، حيث تتحول إلى توتر مزمن، أو قلق، أو حتى أمراض جسدية.
إن قبول المشاعر ليس علامة ضعف، بل هو أعلى درجات الوعي الذاتي والقوة النفسية.
أ/ لماذا نقاوم مشاعرنا؟ استكشاف الأسباب الجذرية
إن مقاومة المشاعر ليست خيارًا واعيًا في معظم الأحيان، بل هي استجابة تلقائية تكونت على مر السنين نتيجة لمجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية.
فهم هذه الأسباب هو الخطوة الأولى نحو تغيير هذا النمط السلوكي وبدء رحلة القبول.
الخوف من الألم العاطفي
السبب الأكثر شيوعًا لمقاومة المشاعر هو ببساطة الخوف من الألم.
مشاعر مثل الحزن العميق بعد فقدان، أو الخوف الشديد من المجهول، أو الخزي من خطأ ارتكبناه، يمكن أن تكون مؤلمة للغاية.
كآلية دفاع طبيعية، يحاول عقلنا حمايتنا من هذا الألم عبر دفع المشاعر بعيدًا أو إنكار وجودها.
نعتقد أننا إذا تجاهلنا الشعور، فإنه سيختفي من تلقاء نفسه.
لكن ما يحدث هو العكس تمامًا؛ فالشعور المكبوت يشبه كرة تطفو تحت الماء، كلما دفعتها للأسفل بقوة، زادت قوة اندفاعها نحو السطح في لحظة غير متوقعة.
هذا الكبت يستهلك طاقة نفسية هائلة ويمنعنا من معالجة الألم والتعافي منه بشكل حقيقي.
الأحكام المجتمعية والثقافية
نحن نعيش ضمن هياكل اجتماعية وثقافية تفرض علينا "قواعد" غير مكتوبة حول المشاعر المقبولة والمرفوضة.
على سبيل المثال، في العديد من الثقافات، يُعتبر إظهار الغضب لدى النساء "غير لائق"، بينما يُنظر إلى بكاء الرجال على أنه "ضعف".
هذه القوالب النمطية تجعلنا نشعر بالخزي أو الذنب عندما تراودنا مشاعر "ممنوعة"، فنسارع إلى إخفائها ليس فقط عن الآخرين، بل عن أنفسنا أيضًا.
إن الخوف من حكم الآخرين علينا يدفعنا إلى ارتداء أقنعة اجتماعية نخفي خلفها حقيقتنا العاطفية، مما يخلق فجوة بين ذاتنا الحقيقية والصورة التي نظهرها للعالم، وهو ما يسبب ضغطًا نفسيًا هائلاً.
سوء فهم طبيعة المشاعر
يعتقد الكثيرون أن هناك مشاعر "جيدة" (مثل السعادة والفرح) ومشاعر "سيئة" (مثل الحزن والغضب).
هذا التقسيم الثنائي هو تبسيط مخلّ لطبيعة النفس البشرية.
في الحقيقة، لا توجد مشاعر سيئة بطبيعتها؛ فكل شعور له وظيفة وهدف.
القلق قد يكون منبهًا لوجود خطر حقيقي يتطلب الانتباه، والحزن يساعدنا على معالجة الفقدان والتكيف معه، والغضب قد يكون دافعًا للدفاع عن حقوقنا أو تغيير وضع غير عادل.
عندما نصنف المشاعر على أنها "سيئة"، فإننا نرفض جزءًا مهمًا من نظامنا التوجيهي الداخلي، ونحرم أنفسنا من الحكمة التي تحملها هذه المشاعر.
إن فهم الوظيفة التكيفية لكل شعور يساعدنا على رؤيتها كأدوات قيمة، لا كأعداء.
ب/ فن احتضان المشاعر: استراتيجيات عملية للفهم والقبول
إن الانتقال من المقاومة إلى القبول يتطلب ممارسة واعية ومستمرة.
الأمر لا يتعلق بالاستسلام للمشاعر السلبية، بل بتطوير علاقة صحية معها.
اقرأ ايضا: كيف تبني ثقة حقيقية بالنفس لا تهزّها الظروف؟
هذا الفن يرتكز على مجموعة من الاستراتيجيات التي تساعد على بناء جسر من الوعي الذاتي والثقة بالنفس.
تسمية المشاعر (Affect Labeling)
واحدة من أقوى الأدوات وأبسطها هي تسمية ما تشعر به بدقة.
بدلًا من أن تقول "أنا أشعر بالسوء"، حاول أن تكون أكثر تحديدًا:
"أنا أشعر بخيبة أمل"، "أنا أشعر بالوحدة"، أو "أنا أشعر بالإرهاق".
أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن مجرد تسمية الشعور بكلمة محددة يقلل من نشاط اللوزة الدماغية (مركز الخوف والقلق في الدماغ) ويزيد من نشاط قشرة الفص الجبهي (مركز التفكير المنطقي).
هذه العملية البسيطة تخلق مسافة نفسية بينك وبين الشعور، مما يتيح لك مراقبته بموضوعية بدلًا من الغرق فيه.
إنها تحول التجربة من "أنا حزين" إلى "أنا ألاحظ وجود شعور بالحزن لديّ الآن".
ممارسة اليقظة الذهنية (Mindfulness)
اليقظة الذهنية هي فن الحضور في اللحظة الراهنة ومراقبة أفكارك ومشاعرك دون إطلاق أحكام عليها.
عندما يأتيك شعور غير مريح، بدلًا من محاربته، حاول أن تجلس معه لبضع دقائق.
لاحظ كيف يؤثر على جسدك (هل هناك شد في كتفيك؟ هل معدتك تؤلمك؟)، ولاحظ الأفكار التي تأتي معه.
الفكرة ليست تحليل الشعور أو حله، بل مجرد السماح له بأن يكون موجودًا.
هذه الممارسة تعلمنا أن المشاعر، مثلها مثل السحاب في السماء، تأتي وتذهب.
إنها حالات مؤقتة وليست هويتنا الدائمة.
مع التدريب، يصبح من الأسهل التعامل مع العواصف العاطفية بثبات وهدوء.
كتابة اليوميات (Journaling)
تُعد الكتابة أداة علاجية فعالة لتفريغ ما في العقل والقلب.
خصص دفترًا لتدوين مشاعرك بانتظام.
اكتب بحرية تامة دون رقابة أو خوف من الحكم.
يمكنك وصف الشعور، أو استكشاف الأسباب التي أدت إليه، أو كتابة رسالة إلى شخص ما دون أن ترسلها.
تساعد الكتابة على تنظيم الأفكار الفوضوية وتحويل المشاعر المجردة إلى كلمات ملموسة يمكن التعامل معها.
إنها تمنحك منظورًا جديدًا وتكشف عن أنماط عاطفية لم تكن واعيًا بها من قبل، مما يعزز الصحة النفسية بشكل كبير.
التعاطف مع الذات (Self-Compassion)
بدلًا من أن تلوم نفسك على ما تشعر به، حاول أن تتعامل مع نفسك باللطف والرحمة التي قد تمنحها لصديق عزيز يمر بموقف صعب.
التعاطف مع الذات يعني أن تدرك أن الألم والمعاناة جزء من التجربة الإنسانية المشتركة. قل لنفسك:
"من الطبيعي أن أشعر هكذا في هذا الموقف.
أنا لست وحدي في هذا الشعور".
هذا التقبل الرحيم يقلل من مشاعر الخزي والعزلة، ويفتح الباب أمام الشفاء الحقيقي.
ج/ من الفهم إلى التوازن: كيف يغير قبول المشاعر حياتك؟
عندما تتوقف عن إهدار طاقتك في محاربة مشاعرك وتبدأ في فهمها، تحدث تحولات عميقة وإيجابية في مختلف جوانب حياتك.
إن قبول المشاعر ليس مجرد تقنية للراحة النفسية، بل هو مفتاح لعيش حياة أكثر أصالة وامتلاءً.
تحسين الصحة النفسية والجسدية
كبت المشاعر يولد ضغطًا نفسيًا مزمنًا، والذي بدوره يؤدي إلى إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.
ارتفاع مستويات هذه الهرمونات لفترات طويلة يرتبط بمجموعة واسعة من المشاكل الصحية، مثل ارتفاع ضغط الدم، وضعف جهاز المناعة، واضطرابات النوم، ومشاكل الجهاز الهضمي.
على الجانب الآخر، السماح للمشاعر بالتدفق بحرية يساعد على تخفيف هذا التوتر، ويقلل من أعراض القلق والاكتئاب، ويعزز الشعور العام بالراحة والسكينة.
إنه أشبه بتنظيف نظام الصرف الداخلي لديك، مما يسمح للطاقة النفسية بالتحرك بسلاسة.
تقوية العلاقات الاجتماعية
إن هذا التواصل العاطفي الصادق يعمق الروابط ويخلق مساحة للثقة والتفاهم المتبادل.
عندما تقول لشريكك "أشعر بالأذى عندما تتحدث معي بهذه الطريقة" بدلًا من الصراخ أو الصمت العقابي، فإنك تفتح الباب لحوار بنّاء بدلًا من الدخول في صراع.
كما أن فهمك لمشاعرك يجعلك أكثر قدرة على فهم مشاعر الآخرين والتعاطف معهم، مما يحسن من ذكائك العاطفي بشكل عام.
اتخاذ قرارات أكثر حكمة
يعتقد الكثيرون أن القرارات الجيدة يجب أن تكون عقلانية بحتة، وخالية من المشاعر. هذه فكرة خاطئة.
المشاعر توفر لنا معلومات قيمة لا يمكن للعقل المنطقي وحده توفيرها.
شعورك بـ"عدم الارتياح" تجاه فرصة عمل قد يكون حدسك يخبرك بأن هناك شيئًا خاطئًا، حتى لو كانت تبدو مثالية على الورق.
عندما تتعلم كيفية الاستماع إلى مشاعرك دون أن تسيطر عليك، فإنك تدمج بين حكمة القلب ومنطق العقل.
هذا التكامل يؤدي إلى اتخاذ قرارات أكثر شمولية وتوازنًا، قرارات تتماشى مع قيمك العميقة وتخدم مصلحتك على المدى الطويل.
د/ رحلة نحو التوازن النفسي المستدام:
إن تحقيق التوازن النفسي ليس وجهة نصل إليها، بل هو رحلة مستمرة من الوعي والممارسة.
الأمر يتطلب التزامًا ببناء عادات صحية تدعم استقرارك العاطفي يومًا بعد يوم.
هذا هو الجزء العملي الذي يحول المعرفة النظرية إلى واقع معاش.
بناء روتين داعم للصحة النفسية
الاستقرار يأتي من الروتين.
تمامًا كما تحتاج أجسامنا إلى طعام ونوم منتظمين، تحتاج نفوسنا إلى رعاية منتظمة.
حاول أن تدمج في يومك أنشطة بسيطة أثبتت فعاليتها في تعزيز الصحة النفسية:
- النوم الكافي: الحصول على 7-9 ساعات من النوم الجيد ليلًا هو حجر الزاوية للتوازن العاطفي.
- الحركة الجسدية: ممارسة الرياضة بانتظام، حتى لو كانت مجرد مشي لمدة 30 دقيقة يوميًا، تطلق الإندورفينات التي تحسن المزاج وتقلل التوتر.
- التغذية المتوازنة: يؤثر ما نأكله بشكل مباشر على كيمياء الدماغ ومشاعرنا. ركز على الأطعمة الكاملة وقلل من السكريات والأطعمة المصنعة.
- وقت في الطبيعة: قضاء بعض الوقت في بيئة طبيعية له تأثير مهدئ ومجدد للنفس.
وضع حدود صحية في العلاقات
أحد أكبر مصادر الضغط العاطفي هو السماح للآخرين بتجاوز حدودنا.
تعلم أن تقول "لا" للأشياء التي تستنزف طاقتك أو تتعارض مع قيمك هو فعل من أفعال حب الذات.
الحدود الصحية لا تبعد الناس، بل تعلمهم كيف يتعاملون معك باحترام.
هذا يشمل وضع حدود للوقت الذي تقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي، وللالتزامات الاجتماعية، وحتى للمحادثات السلبية.
حماية طاقتك النفسية أمر ضروري للحفاظ على التوازن النفسي.
ممارسة الامتنان بوعي
في خضم صراعات الحياة، من السهل أن نركز على ما ينقصنا.
ممارسة الامتنان بوعي هي تدريب للعقل على ملاحظة النعم الموجودة بالفعل.
في نهاية كل يوم، خذ بضع دقائق لتكتب ثلاثة أشياء أنت ممتن لها، مهما كانت بسيطة.
هذه الممارسة البسيطة يمكن أن تغير كيمياء الدماغ، وتزيد من مشاعر السعادة والرضا، وتقلل من تأثير المشاعر السلبية.
طلب المساعدة عند الحاجة
مَلْحوظة شرعية :
الوسائل الذهنية المذكورة وسائل تدريب ومعونة لا تُحدث أثرًا استقلالياً، وأن التوفيق من الله مع الأخذ بالأسباب والعمل المشروع، اتساقًا مع ميزان الشرع في الأسباب والتوكل.
هـ/ وفي الختام :
أخيرًا، من المهم أن ندرك أننا لسنا مضطرين لخوض هذه الرحلة بمفردنا.
إذا شعرت بأن مشاعرك تفوق قدرتك على التعامل معها، أو أنك عالق في أنماط سلبية متكررة، فإن طلب المساعدة من معالج نفسي أو مستشار متخصص ليس علامة فشل، بل هو خطوة شجاعة نحو الشفاء.
يمكن للمختص أن يزودك بالأدوات والاستراتيجيات المناسبة لحالتك، ويوفر لك مساحة آمنة لاستكشاف مشاعرك دون حكم.
إن فهم مشاعرك وقبولها هو استثمار في أثمن ما تملك:
صحتك النفسية.
إنها رحلة تتطلب صبرًا وتعاطفًا، ولكن ثمارها – من سلام داخلي، وعلاقات أعمق، وحياة أكثر أصالة – تستحق كل خطوة في هذا الطريق.
اقرأ ايضا: عدوك الأول هو أنت؟ كيف تتغلب على الصوت السلبي الداخلي:
هل لديك استفسار أو رأي؟
يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة .