عندما تتقبل أنك لا تسيطر على كل شيء
سلامك الداخلي
في خضم أمواج الحياة المتلاطمة، يجد الإنسان نفسه في صراعٍ دائم مع رغبة فطرية في الإمساك بزمام الأمور، وفي محاولة مستميتة لفرض السيطرة على كل تفصيل صغير وكبير في عالمه.
نعتقد، واهمين، أننا إذا أحكمنا قبضتنا على الحاضر والمستقبل، سنضمن لأنفسنا الأمان ونتجنب الألم.
لكن هذه الرغبة، التي تبدو منطقية في ظاهرها، غالبًا ما تكون هي المصدر الأعمق لقلقنا وإرهاقنا وخيبات أملنا.
إنها معركة خاسرة ضد طبيعة الحياة التي تحمل في طياتها ما لا يمكن توقعه أو التحكم به.عندما تتقبل أنك لا تسيطر على كل شيء
إن السعي المحموم خلف وهم السيطرة يضعنا في حالة تأهب دائم، ويجعل عقولنا ساحة حرب للأفكار والسيناريوهات المحتملة، فنفقد بذلك متعة اللحظة الحاضرة ونغرق في بحر من القلق.
لكن ماذا لو كان مفتاح الحرية الحقيقية والسلام الداخلي يكمن في الاتجاه المعاكس تمامًا؟ ماذا لو كانت القوة الحقيقية تكمن في التقبّل، وفي التسليم الواعي بأن هناك أمورًا خارجة عن نطاق سيطرتنا؟
في هذه المقالة من مدونة "رحلة1"، سنخوض معًا في عمق هذا المفهوم، ونكتشف كيف يمكن للتخلي عن الحاجة للتحكم أن يحرر أرواحنا ويفتح لنا أبوابًا من الطمأنينة والرضا لم نكن نعرفها.
أ/ وهم السيطرة: لماذا نسعى للتحكم في كل شيء؟
إن الرغبة في التحكم ليست مجرد نزوة عابرة، بل هي آلية دفاعية معقدة تتجذر في أعماق النفس البشرية.
تنبع هذه الحاجة المُلِحّة من مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية التي تشكل نظرتنا للعالم وتدفعنا إلى الاعتقاد بأن السيطرة تساوي الأمان.
الجذور النفسية للرغبة في السيطرة
الخوف من المجهول: الإنسان بطبعه يميل إلى اليقين ويكره الغموض.
المستقبل المفتوح على كل الاحتمالات يمثل مصدر تهديد، فنميل إلى وضع الخطط الصارمة ورسم كل خطوة قادمة، في محاولة لتحويل المجهول إلى معلوم، وتقليص مساحة عدم اليقين التي تسبب لنا القلق.
تجارب الماضي المؤلمة: قد تكون الرغبة المفرطة في التحكم نتيجة لصدمات أو خيبات أمل سابقة.
عندما يشعر الإنسان بأنه فقد السيطرة في مواقف ماضية نتج عنها ألم كبير، قد يتطور لديه سلوك تعويضي يتمثل في محاولة السيطرة بشكل مبالغ فيه على حاضره ومستقبله، كطريقة لتجنب تكرار الألم.
تدني تقدير الذات: في بعض الأحيان، يكون السعي للسيطرة قناعًا يخفي شعورًا داخليًا بالنقص أو عدم الكفاءة.
يعتقد الشخص أنه من خلال التحكم في بيئته الخارجية ونتائجه، يمكنه إثبات قيمته لنفسه وللآخرين، مما يمنحه شعورًا مؤقتًا بالقوة والثقة.
مظاهر السعي للسيطرة في حياتنا اليومية
تتجلى هذه الرغبة في سلوكيات يومية قد لا نلاحظها أحيانًا، لكنها تستهلك طاقتنا وتؤثر على علاقاتنا:
التخطيط المفرط (Over-planning): الهوس بوضع خطط تفصيلية لكل شيء، والشعور بالتوتر الشديد إذا سارت الأمور على غير ما هو مخطط له.
الإدارة التفصيلية (Micromanagement): صعوبة تفويض المهام للآخرين، والرغبة في الإشراف على كل خطوة يقومون بها، انطلاقًا من عدم الثقة في قدرتهم على إنجاز العمل بالجودة المطلوبة.
القلق الدائم بشأن المستقبل:
قضاء ساعات طويلة في التفكير في سيناريوهات كارثية محتملة، ومحاولة وضع استراتيجيات لمواجهة كل مشكلة قد تظهر، حتى لو كانت احتمالية حدوثها ضئيلة.
الثمن الباهظ لوهم التحكم
إن مطاردة سراب السيطرة الكاملة رحلة مرهقة لا تصل بنا إلا إلى الإرهاق النفسي والجسدي. عندما نرفض التسليم بحقائق الحياة، ندفع ثمنًا باهظًا:
الإرهاق النفسي والاحتراق الوظيفي:
العقل الذي يعمل بلا توقف في محاولة للتحكم في كل شيء، يستنزف طاقته ويصل إلى مرحلة الاحتراق النفسي.
تدهور العلاقات:
الرغبة في التحكم في الآخرين، سواء كانوا شركاء حياة أو زملاء عمل، تخلق جوًا من التوتر والاستياء، وتقتل العفوية والثقة في العلاقات.
فقدان متعة الحاضر:
عندما يكون تركيزنا منصبًا بالكامل على المستقبل ومحاولة التحكم فيه، ننسى أن نعيش اللحظة الحاضرة، ونفوت على أنفسنا جمال وتفاصيل الحياة التي تحدث الآن.
إن وهم السيطرة هو سارق الفرح الحقيقي.
ب/ قوة التقبّل:
المعنى الحقيقي للتخلي عن المقاومة
عندما نتحدث عن التقبّل، قد يتبادر إلى الذهن مفهوم سلبي يوحي بالاستسلام أو الهزيمة أو عدم المبالاة.
لكن هذا الفهم سطحي وخاطئ.
اقرأ ايضا: راحة القلب لا تُشترى: كيف تجدها داخلك؟
التقبّل في جوهره هو موقف قوة ووعي، وهو مهارة نفسية وروحانية عميقة يمكنها أن تغير الطريقة التي نختبر بها الحياة.
ما هو التقبّل (وما ليس هو)
التقبّل ليس معناه أنك توافق على الظلم أو ترضى بالوضع السيئ دون محاولة تغييره.
إنه ليس دعوة للكسل أو التخلي عن الطموح.
ببساطة، التقبّل هو أن تعترف بالواقع كما هو في هذه اللحظة، دون مقاومة أو حكم أو صراع داخلي.
إنه يعني أن تتوقف عن محاربة ما هو كائن بالفعل.
التقبّل ليس استسلامًا:
الاستسلام هو شعور بالعجز والانهزام، بينما التقبّل هو قرار واعٍ بتوجيه طاقتك نحو ما يمكنك تغييره (أفعالك وردود أفعالك)، بدلاً من إهدارها في محاربة ما لا يمكنك تغييره (الواقع الحالي).
التقبّل لا يعني الرضا عن السلبيات:
يمكنك أن تتقبل حقيقة أنك فقدت وظيفتك (هذا هو الواقع الآن)، وفي نفس الوقت لا تكون راضيًا عن هذا الوضع وتعمل بجد للبحث عن فرصة جديدة.
التقبّل هو نقطة البداية، وليس النهاية.
من المنظور الإسلامي:
منزلة الرضا والتوكل
يقدم لنا الإسلام المفهوم الأكثر عمقًا وسموًا للتقبّل من خلال ركنين أساسيين من أركان الإيمان:
الإيمان بالقضاء والقدر، والتوكل على الله.
الرضا بالقضاء والقدر:
أن يؤمن المسلم إيمانًا جازمًا بأن كل ما يحدث في هذا الكون، من خير أو شر، هو بتقدير من الله وحكمته.
هذا الإيمان لا يعني تعطيل الأسباب، فالإنسان مأمور بالأخذ بها، ولكنه يعني التسليم لنتيجة هذه الأسباب، لأنها في النهاية بيد الله.
هذا الرضا يسكب في القلب برد الطمأنينة، ويحرره من أسئلة "لماذا حدث هذا لي؟" و"ماذا لو؟" التي تفتح عمل الشيطان وتغذي القلق.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له".
التوكل على الله:
التوكل هو صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الأخذ بالأسباب المشروعة.
إنه التوازن المثالي بين العمل والثقة.
أنت تزرع البذرة (الأخذ بالأسباب)، ولكنك توكل أمر إنباتها ونموها إلى الله (التسليم بالنتيجة).
هذا المفهوم يحرر الإنسان من عبء القلق على النتائج.
إنك تفعل ما بوسعك، ثم ترفع يديك إلى السماء وقلبك مطمئن بأن الخيرة فيما اختاره الله.
يقول الله تعالى:
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (سورة الطلاق: 3)، أي أن الله كافيه وحسبه.
إن التقبّل من المنظور الإسلامي هو أعلى درجات السلام الداخلي، لأنه ينبع من الثقة المطلقة في حكمة وعدل ورحمة الخالق.
ج/ الثمار اليانعة للتقبّل: كيف تتغير حياتك؟
عندما نبدأ في ممارسة التقبّل ونتخلى تدريجيًا عن حاجتنا للسيطرة، تبدأ حياتنا في التغير بطرق مدهشة وعميقة.
إنها ليست مجرد فكرة فلسفية، بل هي ممارسة عملية تؤتي أكلها في كل جانب من جوانب وجودنا.
انخفاض مستويات التوتر والقلق
الجزء الأكبر من توترنا لا يأتي من الأحداث نفسها، بل من مقاومتها ورفضنا لها.
الصراع الداخلي بين "ما يحدث" و"ما يجب أن يحدث" هو ما يستهلك طاقتنا العصبية.
عندما تتقبل الواقع، يتوقف هذا الصراع.
يهدأ جهازك العصبي، وتجد أن القلق الذي كان يرافقك كظلك يبدأ في التلاشي، ليحل محله شعور بالسكينة والهدوء.
تحسين العلاقات الشخصية
الرغبة في السيطرة هي وصفة لتدمير العلاقات.
عندما نحاول التحكم في أفعال ومشاعر وآراء الآخرين، فإننا نرسل لهم رسالة مفادها "أنا لا أثق بك، وأنا أعرف ما هو أفضل لك".
هذا يخلق مسافة واستياء.
أما التقبّل فيجعلك أكثر تعاطفًا وتفهمًا.
تتقبل أصدقاءك وعائلتك كما هم، بنقاط قوتهم وضعفهم، دون محاولة تغييرهم أو قولبتهم حسب رغباتك.
هذا يخلق مساحة آمنة للحب والثقة والاتصال الحقيقي.
زيادة المرونة النفسية (Resilience)
الحياة حتمًا سترمي في طريقنا تحديات وصعوبات.
المرونة النفسية هي القدرة على التعافي من هذه الصعوبات والنهوض من جديد.
التقبّل هو حجر الزاوية في بناء هذه المرونة.
عندما تتقبل حقيقة الموقف الصعب دون إنكار أو مقاومة، يمكنك أن تبدأ فورًا في تركيز طاقتك على إيجاد الحلول والتكيف مع الوضع الجديد.
تصبح مثل شجرة مرنة تنحني مع الريح العاتية لكنها لا تنكسر، بينما الشخص الذي يقاوم بعناد هو كالشجرة اليابسة التي تتحطم عند أول عاصفة.
فتح أبواب الإبداع والفرص الجديدة
التمسك بخطط صارمة يغلق أعيننا عن الفرص غير المتوقعة التي قد تظهر في طريقنا.
عندما نتخلى عن الحاجة للسيطرة على كل نتيجة، نصبح أكثر انفتاحًا على العفوية واكتشاف مسارات جديدة.
قد تقودك خسارة وظيفة إلى اكتشاف شغف جديد وبدء مشروعك الخاص.
قد يؤدي تغيير غير متوقع في خطط السفر إلى زيارة مكان لم تكن تحلم به.
التقبّل يحررنا من رؤية النفق الضيقة لخططنا، ويسمح لنا برؤية المشهد الواسع للحياة بكل احتمالاته المدهشة.
د/ خطوات عملية نحو التقبّل والسلام الداخلي
إن الانتقال من عقلية السيطرة إلى عقلية التقبّل هو رحلة تتطلب صبرًا وممارسة واعية.
إنها مثل تدريب عضلة جديدة في عقلك وروحك.
فيما يلي بعض الخطوات العملية التي يمكنك البدء بها اليوم لتغذية هذه المهارة المحورية في رحلتك نحو السلام الداخلي.
تدرب على اليقظة الذهنية (Mindfulness)
اليقظة الذهنية هي فن مراقبة أفكارك ومشاعرك وأحاسيسك الجسدية في اللحظة الحاضرة دون إصدار أحكام عليها.
تمرين التنفس:
اجلس في مكان هادئ لبضع دقائق وركز فقط على إحساس الهواء وهو يدخل ويخرج من جسدك.
عندما يتشتت انتباهك (وهذا طبيعي)، أعد توجيه تركيزك بلطف إلى أنفاسك.
هذا التمرين البسيط يدرب عقلك على الملاحظة بدلاً من الانجراف وراء الأفكار.
ملاحظة الأفكار كغيوم:
تخيل أن أفكارك المقلقة هي مجرد غيوم عابرة في سماء وعيك.
لاحظها وهي تأتي وتذهب دون أن تتعلق بها أو تحاول طردها.
هذا يعلمك أنك لست أفكارك، وأنك قادر على الانفصال عنها.
حدد دائرة سيطرتك (مبدأ ستويكي)
قدم الفلاسفة الرواقيون تمرينًا عقليًا قويًا:
قسّم كل شيء في الحياة إلى فئتين:
ما يمكنك التحكم فيه، وما لا يمكنك التحكم فيه.
ما يمكنك التحكم فيه:
أفكارك، قيمك، أفعالك، ردود أفعالك، وكيفية تعاملك مع الآخرين.
ما لا يمكنك التحكم فيه:
الطقس، آراء الآخرين، أفعالهم، الماضي، المستقبل، الأزمات الاقتصادية.
يكمن سر السلام الداخلي في تركيز كل طاقتك ووقتك واهتمامك على الدائرة الأولى، والتسليم الكامل وتقبّل كل ما يقع في الدائرة الثانية.
قبل أن تقلق بشأن شيء ما، اسأل نفسك:
"هل هذا ضمن دائرة سيطرتي؟".
إذا كانت الإجابة "لا"، فتدرب على التخلي عنه.
مارس الامتنان والرضا (الشكر)
الامتنان هو ترياق قوي للقلق والرغبة في السيطرة.
عندما تركز على ما تملكه بدلاً مما ينقصك، يتغير منظورك بالكامل.
دفتر الامتنان: خصص دفترًا صغيرًا، وفي نهاية كل يوم، اكتب ثلاثة أشياء (مهما كانت بسيطة) تشعر بالامتنان تجاهها.
قد يكون كوب قهوة دافئًا، أو محادثة لطيفة، أو نعمة الصحة.
الشكر في الإسلام:
إن الشكر من أعظم العبادات التي تغذي الرضا والتقبّل.
تأمل نعم الله عليك التي لا تعد ولا تحصى.
إن الشعور بالامتنان يذكرك بأنك محاط بالخير، حتى في خضم التحديات، مما يقلل من شعورك بالحاجة إلى السيطرة على كل شيء.
عمّق صلتك الروحانية
بالنسبة للمؤمن، فإن العلاقة مع الله هي المرساة النهائية في بحر الحياة المتقلب.
إنها المصدر الأعظم للقوة والتقبّل.
الدعاء:
تحدث مع الله.
أخبره بمخاوفك وما يقلقك، ثم اطلب منه الهداية والقوة، وسلم أمرك إليه.
الدعاء هو اعتراف صريح بأنك لا تملك القوة إلا بالله، وهو بحد ذاته ممارسة قوية للتخلي عن السيطرة.
الذكر والتأمل في أسماء الله:
إن تكرار ذكر الله (مثل "لا حول ولا قوة إلا بالله") يرسخ في القلب حقيقة عجزك وقوة الله.
تأمل في أسماء الله الحسنى مثل "الوكيل"، "الفتاح"، "اللطيف"، "الحكيم".
عندما تستشعر أن الله هو وكيلك ومدبر أمرك بحكمته ولطفه، يهدأ قلبك وتتقبل أقدارك برضا وطمأنينة.
هـ/ و في الختام :
إن رحلة التقبّل هي رحلة العمر، ولكن كل خطوة فيها تقربك أكثر من جوهرك الهادئ ومن حياة أكثر حرية وسلامًا.
اقرأ ايضا: فن الهدوء: كيف تبقى متزنًا في المواقف الصعبة؟
هل لديك استفسار أو رأي؟
يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة .